سورة الأعراف - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


قوله: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً} معطوف على ما تقدّم، أي وأرسلنا. ومدين: اسم قبيلة، وقيل: اسم بلد والأوّل أولى. وسميت القبيلة باسم أبيهم، وهو مدين بن إبراهيم كما يقال بكر وتميم. قوله: {أخاهم شُعَيْباً} شعيب عطف بيان، وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم، قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما.
وقال الشرقي بن القطامي: إنه شعيب بن عيفاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم. وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن حرّة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وقال قتادة: هو شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم. قوله: {قَالَ ياقوم} إلى قوله: {بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} قد سبق شرحه في قصة نوح.
قوله: {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان} أمرهم بإيفاء الكيل والميزان، لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن، وكانوا لا يوفونهما، وذكر الكيل الذي هو المصدر، وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة.
واختلف في توجيه ذلك، فقيل المراد بالكيل: المكيال، فتناسب عطف الميزان عليه. وقيل المراد بالميزان: الوزن فيناسب الكيل، والفاء في {فأوفوا} للعطف على اعبدوا.
قوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} البخس النقص، وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها، أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وظاهر قوله: {أَشْيَاءهُمْ} أنهم كانوا يبخسون الناس في كل الأشياء. وقيل: كانوا مكاسين، يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم، ومنه قول زهير:
أفي كل أسواق العراق إتاوة *** وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
قوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إصلاحها} قد تقدّم تفسيره قريباً، ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره، ودقيقه وجليله، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى العمل بما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه، والمراد بالخيرية هنا: الزيادة المطلقة، لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن، وفي بخس الناس، وفي الفساد في الأرض أصلاً.
قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} الصراط: الطريق، أي لا تقعدوا بكل طريق توعدون الناس بالعذاب. قيل: كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب، فيتوعدون من أراد المجيء إليه، ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه، كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسديّ، وغيرهم. وقيل المراد: القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها. وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة. ويؤيده: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ بِهِ} وقيل: المراد بالآية النهي عن قطع الطريق، وأخذ السلب، وكان ذلك من فعلهم. وقيل: إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس، فنهوا عن ذلك.
والقول الأوّل: أقربها إلى الصواب، مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة. وجملة {توعدون} في محل نصب على الحال، وكذلك ما عطف عليها، أي لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله، صادّين عن سبيل الله، باغين لها عوجاً، والمراد بالصدّ {عن سبيل الله}: صدّ الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه، ومنعهم من الوصول إلى شعيب، فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبيّ الله هو سلوك سبيل الله، و{مَنْ ءامَنَ بِهِ} مفعول {تصدّون} والضمير في {آمن به} يرجع إلى الله، أو إلى سبيل الله، أو إلى كل صراط أو إلى شعيب، و{تَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة، وقد سبق الكلام على العوج. قال الزجاج: كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام {واذكروا إِذْ كُنتُمْ} أي وقت كنتم {قَلِيلاً} عددكم {فَكَثَّرَكُمْ} بالنسل. وقيل: كنتم فقراء فأغناكم.
{وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الأمم الماضية، فإن الله أهلكهم، وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم. {وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ} إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم {وَطَائِفَةٌ} منكم {لَّمْ يْؤْمِنُواْ فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم. وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر. وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين، ومثله قوله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} [التوبة: 52] أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحلّ بهم من أذى الكفار، حتى ينصرهم الله عليهم. {قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ} أي قال الأشراف المستكبرون {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ} لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرّد عن الإجابة إلى ما دعاهم إليه، بل جاوزوا ذلك بغياً وبطراً وأشرا إلى توعد نبيهم، ومن آمن به، بالإخراج من قريتهم، أو عوده هو ومن معه في ملتهم الكفرية، أي لا بدّ من أحد الأمرين: إما الإخراج، أو العود. قال الزجاج: يجوز أن يكون العود بمعنى الإبتداء. يقال عاد إليّ من فلان مكروه، أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك، فلا يرد ما يقال: كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولاً؟ ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومه المتبعين له عليه في الخطاب، بالعود إلى ملتهم.
وجملة {قَالَ أُو لَو كُنَّا كارهين} مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر. والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود، والواو للحال، أي أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعاً، والمعنى: إنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين، ولا يصح لكم ذلك، فإن المكره لا اختيار له، ولا تعدّ موافقته مكرها موافقة، ولا عوده إلى ملتكم مكرهاً عوداً، وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام، حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام.
{قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ} التي هي الشرك {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} بالإيمان، فلا يكون منا عود إليها أصلاً {وَمَا يَكُونُ لَنَا} أي ما يصح لنا ولا يستقيم {أَن نَّعُودَ فِيهَا} بحال من الأحوال {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي إلا حال مشيئته سبحانه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عزّ وجلّ، قال: وهذا قول أهل السنة. والمعنى: أنه لا يكون منا العود إلى الكفر، إلا أن يشاء الله ذلك، فالاستثناء منقطع. وقيل: إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عزّ وجلّ، كما في قوله: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله} [هود: 88] وقيل: هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيضّ الغراب، وحتى يلج الجمل في سمّ الخياط، والغراب لا يبيض، والجمل لا يلج، فهو من باب التعليق بالمحال.
{وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} أي أحاط علمه بكل المعلومات، فلا يخرج عنه منها شيء، و{علماً} منصوب على التمييز. وقيل المعنى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لهم {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} عودنا إليها {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} أي عليه اعتمدنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله، ويتمّ علينا نعمته، ويعصمنا من نقمته.
قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} الفتاحة الحكومة، أي احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين. دعوا الله سبحانه أن يحكم بينهم، ولا يكون حكمه سبحانه إلا بنصر المحقين على المبطلين، كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه فكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين، وحلول نقمة الله بهم {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} معطوف على {قَالَ الملأ الذين استكبروا} يحتمل أن يكون هؤلاء هم أولئك، ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب، واللام في {لئن اتبعتم شعيبا} موطئة لجواب قسم محذوف، أي دخلتم في دينه، وتركتم دينكم {إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون} جواب القسم ساد مسدّ جواب الشرط. وخسرانهم: هلاكهم، أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن، وترك التطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي: الزلزلة. وقيل: الصيحة كما في قوله: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جاثمين} [هود: 94] قد تقدم تفسيره في قصة صالح.
قوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} هذه الجملة مستأنفة مبينة لما حلّ بهم من النعمة، والموصول مبتدأ، و{كأن لم يغنوا} خبره يقال غنيت بالمكان إذا أقمت به، وغنى القوم في دارهم، أي طال مقامهم فيها، والمغني: المنزل، والجمع المغاني. قال حاتم الطائي:
غنينا زماناً بالتصعلك والغنى *** وكلا سقاناه بكاسيهما الدهر
فما زادنا بغياً على ذي قرابة *** غنانا ولا أزرى باحساننا الفقر
ومعنى الآية: الذين كذبوا شعيباً كأن لم يقيموا في دارهم، لأن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب، والموصول {في الذين كذبوا} شعيباً مبتدأ خبره {كَانُواْ هُمُ الخاسرين} وهذه الجملة مستأنفة كالأولى، متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين {فتولى عَنْهُمْ} أي شعيب لما شاهد نزول العذاب بهم {وَقَالَ ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى} التي أرسلني بها إليكم {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم {فَكَيْفَ ءاسى} أي أحزن {على قَوْمٍ كافرين} بالله، مصرّين على كفرهم، متمردين عن الإجابة، أو الأسى شدة الحزن، آسى على ذلك فهو آس. قال شعيب هذه المقالة تحسراً على عدم إيمان قومه، ثم سلا نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليس بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله، وعدم قبولهم لما جاء به رسوله.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن عساكر، عن عكرمة، والسدي قالا: ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً: مرة إلى مدين فأخذتهم الصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة {فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة} [الشعراء: 189].
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} قال: لا تظلموا الناس.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} قال: لا تظلموهم {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: كانوا يوعدون من أتى شعيباً وغشيه وأراد الإسلام.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: كانوا يجلسون في الطريق، فيخبرون من أتى عليهم أن شعيباً كذاب، فلا يفتننكم عن دينكم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد {بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: بكل سبيل حق {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: تصدّون أهلها {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال: تلتمسون لها الزيغ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} قال: هو العاشر {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: تصدّون عن الإسلام {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} قال: هلاكاً.
وأخرج أبو الشيخ، عن مجاهد، قال: هم العُشَّار.
وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره، شك أبو العالية قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلا شقته، ولا شيء إلا خرقته، قال: «ما هذا يا جبريل؟» قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السدي، في قوله: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} قال: ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله {إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا} والله لا يشاء الشرك، ولكن يقول: إلا أن يكون الله قد علم شيئاً، فإنه قد وسع كل شيء علماً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن الأنباري في الوقف والابتداء، عن ابن عباس قال: ما ما كنت أدري ما قوله: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} حتى سمعت ابنته ذي يزن تقول: تعال أفاتحك، تعني أقاضيك.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، في قوله: {رَبَّنَا افتح} يقول: اقض.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، قال: الفتح القضاء لغة يمانية إذا قال أحدهم تعال أقاضيك القضاء قال: تعال أفاتحك.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس {لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} قال: لم يعيشوا فيها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {فَكَيْفَ ءاسى} قال: أحزن.
وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل، وقبر شعيب، فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.
وأخرج ابن عساكر عن وهب بن منبه أن شعيباً مات بمكة، ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم، عن ابن إسحاق قال: ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيباً قال: «ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة».


قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ} لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم، وهم المذكورون سابقاً، أجمل حال سائر الأمم المرسل إليها، أي وما أرسلنا في قرية من القرى من نبيّ من الأنبياء. وفي الكلام محذوف، أي فكذب أهلها {إلا أخذناهم} والاستثناء مفرّغ، أي ما أرسلنا في حال من الأحوال، إلا في حال أخذنا أهلها، فمحل أخذنا النصب. والبأساء: البؤس والفقر. والضراء: الضرّ.
وقد تقدم تحقيق معنى البأساء والضراء {لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} أي لكي يتضرعوا ويتذللوا، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء.
قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا} معطوف على {أخذنا} أي ثم بعد الأخذ لأهل القرى بدّلناهم {مَكَانَ السيئة} التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان {الحسنة} أي الخصلة الحسنة، فصاروا في خير وسعة وأمن {حتى عَفَواْ} يقال عفا كثر، وعفا درس، فهو من أسماء الأضداد، والمراد هنا: أنهم كثروا في أنفسهم وفي أموالهم، أي أعطيناهم الحسنة مكان السيئة، حتى كثروا {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء} أي قالوا هذه المقالة عند أن صاروا في الحسنة بعد السيئة، أي أن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء، ثم من الرخاء والخصب من بعد، هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله. فمسهم من البأساء والضراء ما مسنا، ومن النعمة والخير ما نلناه، ومعناهم: أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف، وأن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم، واختبار لما عندهم، وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوّهم ما لا يخفى، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم فقال: {فأخذناهم بَغْتَةً} أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال والحال أن {هُمْ لا يَشْعُرُونَ} بذلك ولا يترقبونه. واللام في {القرى} للعهد، أي: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى} التي أرسلنا إليها رسلنا {ءامَنُواْ} بالرسل المرسلين إليهم {واتقوا} ما صمموا عليه من الكفر، ولم يصرّوا على ما فعلوا من القبائح {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض} أي يسرنا لهم خير السماء والأرض، كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها. قيل المراد بخير السماء: المطر، وخير: الأرض النبات، والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك. ويجوز أن تكون اللام في {القرى} للجنس. والمراد: لو أن أهل القرى أين كانوا، وفي أيّ بلاد سكنوا {آمنوا واتقوا} إلى آخر الآية. {ولكن كَذَّبُواْ} بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا {فأخذناهم} بالعذاب بسبب {مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الذنوب الموجبة لعذابهم. والاستفهام في {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى} للتقريع والتوبيخ، وأهل القرى هم أهل القرى: المذكورة قبله، والفاء للعطف، وهو مثل: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50]. وقيل: المراد بالقرى مكة وما حولها، لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والحمل على العموم أولى.
قوله: {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا} أي: وقت بيات، وهو الليل، على أنه منصوب على الظرفية، ويجوز أن يكون مصدراً، بمعنى تبيتاً، أو مصدراً في موضع الحال، أي مبيتين، وجملة: {وَهُمْ نَائِمُونَ} في محل نصب على الحال، والاستفهام في {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} كالاستفهام الذي قبله. والضحى ضحوة النهار، وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. قرأ ابن عامر والحرميان {أوْ أمن} بإسكان الواو، وقرأ الباقون بفتحها. وجملة {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} في محل نصب على الحال، أي يشتغلون بما لا يعود عليهم بفائدة. والاستفهام في {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} للتقريع والتوبيخ، وإنكار ما هم عليه من أمان مالا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير، لإنكار ما أنكره عليهم، ثم بين حال من أمن مكر الله، فقال: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} أي الذين أفرطوا في الخسران، ووقعوا في وعيده الشديد. وقيل: مكر الله هنا هو استدراجه بالنعمة والصحة. والأولى حمله على ما هو أعمّ من ذلك.
قوله: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} قرئ: {نهد} بالنون وبالتحتية. فعلى القراءة بالنون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه، ومفعول الفعل {أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي أن الشأن هو هذا، وعلى القراءة بالتحتية يكون فاعل يهد هو {أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم. والهداية هنا بمعنى التبيين، ولهذا عديت باللام.
قوله: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} أي ونحن نطبع على قلوبهم على الاستئناف، ولا يصح عطفه على {أصبنا} لأنهم ممن طبع الله على قلبه، لعدم قبولهم للإيمان. وقيل: هو معطوف على فعل مقدّر دلّ عليه الكلام. كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع. وقيل معطوف على {يرثون} قوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} جواب {لو} أي صاروا بسبب إصابتنا لهم بذنوبهم، والطبع على قلوبهم، لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من الوعظ، والإعذار، والإنذار.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} قال: مكان الشدة الرخاء {حتى عَفَواْ} قال: كثروا، وكثرت أموالهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس في قوله: {حتى عَفَواْ} قال: جَمُّوا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء} قال: قالوا قد أتى على آبائنا مثل هذا فلم يكن شيئاً {فأخذناهم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عنه في قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ} قال: بما أنزل الله: {واتقوا} قال: ما حرّمه الله {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والأرض} يقول: أعطتهم السماء بركتها والأرض نباتها.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق معاذ بن رفاعة، عن موسى الطائفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا الخبز، فإن الله أنزله من بركات السماء، وأخرجه من بركات الأرض».
وأخرج البزار والطبراني، قال السيوطي، بسند ضعيف، عن عبد الله ابن أمّ حرام قال: صليت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أكرموا الخبز، فإن الله أنزله من بركات السماء، وسخر له بركات الأرض، ومن تتبع ما يسقط من السفرة، غفر له».
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: كان أهل قريةِ أوسع الله عليهم، حتى كانوا يستنجون بالخبز، فبعث الله عليهم الجوع.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {أَوَ لَمْ يَهْدِ} قال: أو لم نبين.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السديّ في قوله: {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} قال: المشركون.


قوله: {تِلْكَ القرى} أي التي أهلكناها، وهي قرى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، المتقدّم ذكرها. {نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي نتلو عليك {مِنْ أَنبَائِهَا} أي من أخبارها. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. و{نقصّ} إما في محل نصب على أنه حال، و{تِلْكَ القرى} مبتدأ وخبر، أو يكون في محل رفع على أنه الخبر، و{القرى} صفة {لتلك} و{من} في {مِنْ أَنبَائِهَا} للتبعيض، أي نقصّ عليك بعض أنبائها، واللام في {وَلَقَد جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} جواب القسم. والمعنى: أن من أخبارهم أنها جاءتهم رسل الله ببيناته، كما سبق بيانه في قصص الأنبياء المذكورين قبل هذا {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} عند مجيء الرسل {بِمَا كَذَّبُواْ} به {مِن قَبْلُ} مجيئهم، أو فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل، في حال من الأحوال، ولا في وقت من الأوقات بما كذبوا به قبل مجيئهم، بل هم مستمرون على الكفر، متشبثون بأذيال الطغيان دائماً، ولم ينجع فيهم مجيء الرسل، ولا ظهر له أثر، بل حالهم عند مجيئهم كحالهم قبله. وقيل المعنى: فما كانوا ليؤمنوا بعد هلاكهم بما كذبوا به لو أحييناهم كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا} [الأنعام: 28] وقيل سألوا المعجزات، فلما رأوها لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤيتها، والأوّل: أولى، ومعنى تكذيبهم قبل مجيء الرسل: أنهم كانوا في الجاهلية يكذبون بكل ما سمعوا به من إرسال الرسل، وإنزال الكتب.
قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} أي مثل ذلك الطبع الشديد يطبع الله على قلوب الكافرين، فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير ولا ترغيب ولا ترهيب. قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ} الضمير يرجع إلى أهل القرى المذكورين سابقاً، أي ما وجدنا لأكثر أهل هذه القرى من عهد، أي عهد يحافظون عليه ويتمسكون به، بل دأبهم نقض العهود في كل حال. وقيل الضمير يرجع إلى الناس على العموم، أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد. وقيل المراد بالعهد: هو المأخوذ عليهم في عالم الذرّ. وقيل: الضمير يرجع إلى الكفار على العموم من غير تقييد بأهل القرى، أي الأكثر منهم لا عهد ولا وفاء. والقليل منهم قد يفي بعهده ويحافظ عليه، و(أن) في {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين} هي المخففة من الثقيلة، وضمير الشأن محذوف، أي أن الشأن وجدنا أكثرهم لفاسقين، أو هي النافية. واللام في {لفاسقين} بمعنى إلا، أي إلا فاسقين خارجين عن الطاعة خروجاً شديداً.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبيّ بن كعب، في قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} قال: كان في علم الله يوم أقروا له بالميثاق من يكذب به ممن يصدّق به.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} قال: مثل قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28].
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، في قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ} قال: الوفاء.
وأخرج ابن أبي حاتم، في الآية قال: هو ذاك العهد يوم أخذ الميثاق.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين} قال: ذاك أن الله إنما أهلك القرى، لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9